السياسة الاقتصادية كل لا يتجزأ، وفي حالة عمل كل سياسة من مكونات السياسة الاقتصادية بمفردها، عادة ما يكون لذلك أثر سلبي على المستوى القومي.
ومن المفترض من الناحية النظرية، أن ثمة تنسيقا بين مكونات السياسات الاقتصادية (السياسة النقدية، والسياسة المالية، والسياسة التجارية، وسياسات الاستثمار، وسياسات العمل والتشغيل)، حتى لا تعالج سياسة معينة سلبياتها بمزيد من السلبيات على حساب السياسات الأخرى.
والملاحظ في الواقع المصري أن هذا الربط بين مكونات السياسة الاقتصادية ضعيف، أو أنه يحتاج إلى سرعة في معالجة الآثار التي تنتج عن اتباع إجراءات معينة داخل كل سياسة من مكونات السياسات الاقتصادية.
ومن أبرز ملامح هذا الأداء ما تم تجاه السياسة النقدية بعد ثورة 25 يناير 2011، حيث ظل صانع السياسة النقدية يمارس أقصى درجات حماية سعر صرف الجنيه المصري، بينما السياسة التجارية تاركة الباب على مصراعيه ليزداد العجز في الميزان التجاري وفي ميزان المدفوعات بشكل كبير.
وكذلك توفرت الحرية التامة لخروج رؤوس الأموال الأجنبية، بل وتوفرت هذه الحرية لبعض أموال المصريين بالعملات الأجنبية في ظل سعر صرف مستقر، وكان الثمن أن تم استنزاف ما يزيد عن 20 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي، ليتم وضع الاقتصاد المصري تحت مجموعة من الضغوط هو في غنى عنها.
واقع السياسة النقدية
بالنظر إلى مكونات السياسة النقدية في مصر، نجد أن نسبة كبيرة منها تؤدي في ظل ظروف استثنائية، فغالبية هذه الأدوات تعاني من ضغوط، ويمكن اعتبار هذه الضغوط التي تعمل في إطارها أدوات السياسة النقدية سببا ونتيجة لمشكلات الاقتصاد المصري ككل.
فلدينا سعر الصرف الذي يمكن أن نعتبره الأداة الأولى للسياسة النقدية، نظرًا لما اعتراه من انخفاضات مباغتة منذ مطلع عام 2013، ليفقد الجنيه نحو 10.1% من قيمته التي كان عليها مع نهاية عام 2012.
وقد انعكس هذا الانخفاض بدوره على الأسعار بشكل واضح، في ظل غياب كافة صور الرقابة على الأسواق، ولم تتوقف الآثار المباشرة لخفض قيمة الجنيه المصري على ارتفاع الأسعار بالأسواق فقط، بل تم الاتجاه بمعدلات سريعة لتعظيم ظاهرة الدولرة "أى تحويل المدخرات بالجنيه المصرى الى الدولار "، وخلق سوق موازية للصرف الأجنبي، ساعد على نشاطها السلوك السلبي للأفراد، سواء كانوا حائزين للدولار من القطاع العائلي، أو من رجال الأعمال المستوردين، أو أصحاب المصانع.
وكما حدث في غياب الرقابة على الأسواق عند رفع الأسعار، غابت الرقابة على شركات الصرافة وتجار السوق السوداء في السوق الموازية للعملات الأجنبية.
على جانب آخر نجد الأداة الثانية للسياسة النقدية وهي معدلات التضخم، وهي التي تجلت أهم مظاهرها في ارتفاع الأسعار بالأسواق نتيجة خفض العملة الوطنية بنظام الصدمة في مطلع عام 2013، وسبق ذلك التوقيت الخاطئ بشأن التشريعات الضريبية التي تساعد على زيادة معدلات ضرائب المبيعات والدخل والدمغة، وإن كان تم تجميدها بعد ساعات من صدورها، إلا أنها أعطت مؤشرًا للسوق باتجاه الحكومة في هذه القضية، فتم رفع الأسعار، ولم تنخفض بعد تراجع الحكومة وتجميد تلك التشريعات.
وحسب بيانات البنك المركزي المصري فإن معدلات التضخم في نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي كانت 2.8 % مقارنة بـ 1.3% في يناير/ كانون الثاني الماضي، وتعد معدلات فبراير شباط 2013 هي الأعلى بين المعدلات الشهرية خلال فترة ما بعد الثورة، على مدار العامين الماضيين.
ولم تكن المعدلات السنوية بأحسن حال، حيث تبين الإحصاءات أن معدل التضخم السنوي في فبراير شباط الماضي أيضًا بلغت 8.7%، مقارنة بنحو 6.5% بالعام السابق.
إلا أن هناك عوامل أخرى ساعدت على زيادة معدلات التضخم منها ما يتعلق بضعف معدلات النمو الاقتصادي بعد ثورة 25 يناير، إذ لم يتجاوز هذا المعدل 2.6% على أساس ربع سنوى في أفضل حالته.
وعلى صعيد آخر كان للتضخم المستورد دوره من خلال زيادة قيمة الواردات بنحو 19.7 مليار دولار على مدار عامي 2010/2011 و2011/2012، وسوف يزيد أثره في فاتورة الواردات للعام المالي 2012/2013، بنفس قيمة انخفاض معدلات العملة الوطنية.
المحور الثالث في السياسة النقدية المصرية هو سعر الفائدة، حيث خرجت هذه الآلية من ركود طال لأكثر من عامين، حيث كانت العقلية التي تدير السياسة النقدية تعلن أنها تستهدف عدم زيادة سعر الفائدة على الدين الحكومي الذي تزايدت قيمته ليتجاوز 1.2 تريليون جنيه مصري، إلا أن الواقع العملي كان يشهد زيادات ملحوظة في سعر الفائدة على أذون وسندات الحكومة.
ونتج عن هذه السياسة وجود حجم كبير من المدخرات في السوق غير الرسمي، وهو ما شجع على إتاحة سيولة كبيرة بالبورصة على الرغم من تعرضها للكثير من المخاطر غير المحسوبة بعد ثورة 25 يناير، أو استمرار الأفراد في المضاربات على الأراضي، وسمحت كذلك بوجود معدلا سيولة كافية للمضاربة على سعر الصرف الأجنبي بالسوق السوداء، حينما انخفضت قيمته بشدة في مطلع عام 2013.
ووجود هذه المدخرات بالسوق غير الرسمي أمر طبيعي في ظل انخفاض العائد على الودائع بالجهاز المصرفي عن معدلات التضخم السائدة.
المحور الرابع، وهو تراجع احتياطي النقد الأجنبي، الذي كان من أهم أدوات السياسة النقدية في تفعيل آلية السوق المفتوحة، قبل ثورة 25 يناير، من أجل الوصول إلى سعر صرف مستقر للعملة الوطنية، ولكن استنزاف هذا الاحتياطي على مدار الأعوام 2011 و2012 أدى إلى الحد من تفعيل آلية السوق المفتوحة، واللجوء إلى آلية المزاد، التي قد لا تساعد بشكل كبير في التحكم بالسوق، وصناعة العرض والطلب على العملة الأجنبية، عند السعر التوازني الذي يحقق مصالح الاقتصاد الوطني ويقضي على السوق السوداء للصرف الأجنبي.
محاولات الإصلاح
ثمة خطوات تتخذ على صعيد إصلاح السياسة النقدية، تساعدها خطوات مماثلة على صعيد السياسة التجارية، من شأنها أن تخفف من حدة تحديات السياسة النقدية في مصر، ولكنها لا تعني أنها العلاج الناجع سواء للسياسة النقدية أو الاقتصاد المصري ككل.
فعلى صعيد سعر الصرف، فإن هناك ترشيدا لاستخدام آلية المزادات التي اتبعها البنك المركزي في مطلع عام 2013، وأدت إلى صدمة انخفاض سعر صرف العملة الوطنية، ولوحظ أن وتيرة الانخفاض منذ منتصف فبراير شباط الماضي وحتى الآن، ضعيفة، ويمكن التعايش معها أو توقع أثرها في الأجل القصير أو حتى المتوسط.
كذلك ما تم اتخاذه من قرارات من جانب البنك المركزي بشأن قيام الجهاز المصرفي بتمويل الواردات للسلع الأساسية والدواء، والامتناع عن تمويل السلع الترفيهية، وهذا القرار من شأنه أن يخفف من حدة الطلب على الدولار، وكذلك يساعد في مواجهة مزيد من الانخفاض في سعر العملة الوطنية.
وقد يساعد صانع السياسة النقدية في الحفاظ على سعر العملة الوطنية ما أتخذ من قرارات مؤخرًا برفع التعريفة الجمركية على نحو 100 سلعة استيرادية، تتعلق بسلع ترفيهية أو غير ضرورية.
واتخذت السياسة النقدية مؤخرًا اتجاهًا برفع سعر الفائدة على الشهادات الادخارية طويلة الأجل لتصل إلى نحو 13%، وهو ، بلا شك ، سوف يساعد على زيادة معدلات الادخار لدى القطاع العائلي، وقد يذهب البعض بأن ذلك الإجراء له تأثيره السلبي على الاستثمار، ولكن يمكن معالجة هذا الأمر إذا ما لجأت بنوك القطاع العام، والتي تستحوذ على ما يزيد عن 50% من ودائع القطاع العائلي، إلى التنازل عن جزء كبير من أرباحها على رؤوس أموالها، من أجل تشغيل الاقتصاد واستمرار النمو.
كذلك ما اتخذ من قرارات بشأن الحصول على ودائع دولارية من دول عربية، منها 2 مليار دولار من ليبيا، والسعي للحصول على 4 مليارات دولارات من العراق لتكون وديعة بالبنك المركزي المصري.
ومن شأن تفعيل هذه الآلية أن تساعد صانع السياسة النقدية أن يحقق استقرارًا في سعر الصرف، مع الأخذ في الاعتبار بأن هذه الأموال مجرد ودائع وليست قروض أو منح، وأنها قد تكون قصيرة الأجل أكثر مما نتخيل، فهي ودائع، ومن أهم خصائص الودائع أنها تحت الطلب.
لن يساعد السياسة النقدية في مصر على أن تصل إلى بر الأمان إلا أن يتحقق الاستقرار السياسي والأمني، ليعود الاقتصاد المصري للعمل بكامل طاقته، لتعويض ما تحقق من خسائر اقتصادية، ويمكن استعادة الموارد الدولارية بقطاع السياحة والتصدير بشكل طبيعي، وأن يعود معدل النمو الاقتصادي بما لا يقل عن 5%، لتواجه مصر هذا السيل من الاستيراد في سلع يمكن إنتاجها محليًا بلا أية مشقة سواء في القطاع الزراعي أو الصناعي.
فالسياسة النقدية لا تستطيع أن تصفق وحدها، أو أن تعمل في فراغ، فلابد من تكاتف باقي مكونات السياسة الاقتصادية، وأن تستغل فرصة انخفاض العملة الوطنية في زيادة الصادرات، كما استفادت من هذه الميزة بلدان كثيرة، على رأسها دول جنوب شرق آسيا في أزمتها في عام 1997.